فصل: قال أبو السعود:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن عطية:

{يَا داود إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ} واستدل بعض الناس من هذه الآية على احتياج الأرض إلى خليفة من الله تعالى.
قال القاضي أبو محمد عبد الحق: وليس هذا بلازم من الآية، بل لزومه من الشرع والإجماع، ولا يقال خليفة الله إلا لرسوله، وأما الخلفاء: فكل واحد منهم خليفة الذي قبله، وما يجيء في الشعر من تسمية أحدهم خليفة الله، فذلك تجوز وغلو كما قال ابن قيس الرقيات: المنسرح:
خليفة الله في بريته ** جفت بذاك الأقلام والكتب

ألا ترى أن الصحابة رضي الله عنهم حرروا هذا المعنى فقالوا لأبي بكر الصديق خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبهذا كان يدعى مدته، فلما ولي عمر قالوا: يا خليفة خليفة رسول الله، فطال الأمر، ورأوا أنه في المستقبل سيطول أكثر، فدعوه أمير المؤمنين، وقصر هذا الاسم على الخلفاء.
وقوله عز وجل: {إن الذين يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد}. إلى قوله: {وليتذكر أولو الألباب} اعتراض بين الكلامين من أمر داود وسليمان، هو خطاب لمحمد صلى الله عليه وسلم وعظة لأمته، ووعيد للكفرة به.
وقرأ أبو حيوة: {يُضلون} بضم الياء، و{نسوا} في هذه الآية معناه: تركوا وأخبر تعالى أن الذين كفروا يظنون أن خلق السماء وما بينهما إنما هو باطل لا معنى له، وأن الأمر ليس يؤول إلى ثواب ولا إلى عقاب.
وأخبر تعالى عن كذب ظنهم وتوعدهم بالنار، ثم وقف تعالى على الفرق عنده بين المؤمنين العاملين بالصالحات، وبين المفسدين بالكفرة، وبين المتقين والفجار، وفي هذ التوقيف حض على الإيمان وترغيب فيه، ووعيد للكفرة. ثم أحال في طلب الإيمان والتقوى على كتابه العزيز بقوله: {كتاب أنزلناه} المعنى: هذا كتاب لمن أراد التمسك بالإيمان والقربة إلينا، وفي هذه الآيات اقتضاب وإيجاز بديع حسب إعجاز القرآن العزيز ووصفه بالبركة لأن أجمعها فيه، لأنه يورث الجنة وينقذ من النار، ويحفظ المرء في حال الحياة الدنيا ويكون سبب رفعة شأنه في الحياة الآخرة.
وقرأ جمهور الناس: {ليدّبّروا} بشد الدال والباء، والضمير للعالم. وقرأ حفص عن عاصم: {لتدبروا} على المخاطبة. وقرأ أبو بكر عنه: {لتدَبروا} بتخفيف الدال، أصله: تتدبروا، وظاهر هذه الآية يعطي أن التدبر من أسباب إنزال القرآن، فالترتيل إذًا أفضل من الهذ، إذ التدبر لا يكون إلا مع الترتيل، وباقي الآية بين. اهـ.

.قال القرطبي:

{يَا داود إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ} فيه خمس مسائل:
الأولى: قوله تعالى: {إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأرض} أي ملّكناك لتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، فتخلُف من كان قبلك من الأنبياء والأئمة الصالحين.
وقد مضى في البقرة القول في الخليفة وأحكامه مستوفى والحمد لله.
الثانية: قوله تعالى: {فاحكم بَيْنَ الناس بالحق} أي بالعدل.
وهو أمر على الوجوب وقد ارتبط هذا بما قبله، وذلك أن الذي عوتب عليه داود طلبه المرأة من زوجها وليس ذلك بعدل.
فقيل له بعد هذا؛ فاحكم بين الناس بالعدل {وَلاَ تَتَّبِعِ الهوى} أي لا تقتد بهواك المخالف لأمر الله {فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ الله} أي عن طريق الجنة.
{إِنَّ الذين يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ الله} أي يحيدون عنها ويتركونها {لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدُ} في النار {بِمَا نَسُواْ يَوْمَ الحساب} أي بما تركوا من سلوك طريق الله؛ فقوله: {نَسُوا} أي تركوا الإيمان به، أو تركوا العمل به فصاروا كالناسين.
ثم قيل: هذا لداود لما أكرمه الله بالنبوّة.
وقيل: بعد أن تاب عليه وغفر خطيئته.
الثالثة: الأصل في الأقضية قوله تعالى: {يا داود إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأرض فاحكم بَيْنَ الناس بالحق} وقوله: {وَأَنِ احكم بَيْنَهُمْ بِمَآ أَنزَلَ} [المائدة: 49] وقوله تعالى: {لِتَحْكُمَ بَيْنَ الناس بِمَآ أَرَاكَ الله} [النساء: 105] وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَآ الذين آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ للَّهِ شُهَدَاءَ بالقسط وَلاَ} [المائدة: 8] الآية. وقد تقدّم الكلام فيه.
الرابعة: قال ابن عباس في قوله تعالى: {يا داود إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأرض فاحكم بَيْنَ الناس بالحق وَلاَ تَتَّبِعِ الهوى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ الله} قال: إن ارتفع لك الخصمان فكان لك في أحدهما هوًى، فلا تشته في نفسك الحق له لِيفلُج على صاحبه، فإن فعلتَ محوتُ اسمك من نبوّتي، ثم لا تكون خليفتي ولا أهل كرامتي.
فدلّ هذا على بيان وجوب الحكم بالحق، وألاّ يميل إلى أحد الخصمين لقرابة أو رجاء نفع، أو سبب يقتضي الميل من صحبة أو صداقة، أو غيرهما.
وقال ابن عباس: إنما ابتلي سليمان بن داود عليه السلام، لأنه تقدّم إليه خصمان فهوِي أن يكون الحق لأحدهما.
وقال عبد العزيز بن أبي روّاد: بلغني أن قاضيًا كان في زمن بني إسرائيل، بلغ من اجتهاده أن طلب إلى ربه أن يجعل بينه وبينه علَما، إذا هو قضى بالحق عرف ذلك؛ وإذا هو قصّر عرف ذلك، فقيل له: ادخل منزلك، ثم مدّ يدك في جدارك، ثم انظر حيث تبلغ أصابعك من الجدار فاخطط عندها خطًا؛ فإذا أنت قمت من مجلس القضاء، فارجع إلى ذلك الخط فامدد يدك إليه، فإنك متى ما كنت على الحق فإنك ستبلغه، وإن قصّرت عن الحق قصّر بك، فكان يغدو إلى القضاء وهو مجتهد فكان لا يقضي إلا بحق، وإذا قام من مجلسه وفرغ لم يذق طعامًا ولا شرابًا، ولم يفِض إلى أهله بشيء من الأمور حتى يأتي ذلك الخط، فإذا بلغه حمد الله وأفضى إلى كل ما أحلّ الله له من أهل أو مطعم أو مشرب.
فلما كان ذات يوم وهو في مجلس القضاء، أقبل إليه رجلان يريدانه، فوقع في نفسه أنهما يريدان أن يختصما إليه، وكان أحدهما له صديقًا وخِدْنًا، فتحرّك قلبه عليه محبة أن يكون الحق له فيقضي له، فلما أن تكلما دار الحق على صاحبه فقضى عليه، فلما قام من مجلسه ذهب إلى خطه كما كان يذهب كل يوم، فمدّ يده إلى الخط فإذا الخط قد ذهب وتشمّر إلى السقف، وإذا هو لا يبلغه فخرّ ساجدًّا وهو يقول: يا ربّ شيئًا لم أتعمده ولم أردْه فبيِّنْه لي.
فقيل له؛ أتحسبن أن الله تعالى لم يطلع على خيانة قلبك، حيث أحببت أن يكون الحق لصديقك لتقضي له به، قد أردته وأحببته ولكن الله قد ردّ الحق إلى أهله وأنت كاره.
وعن ليث قال: تقدّم إلى عمر بن الخطاب خصمان فأقامهما، ثم عادا فأقامهما، ثم عادا ففصل بينهما، فقيل له في ذلك، فقال: تقدّما إليّ فوجدت لأحدهما ما لم أجد لصاحبه، فكرهت أن أفصل بينهما على ذلك، ثم عادا فوجدت بعض ذلك له، ثم عادا وقد ذهب ذلك ففصلت بينهما.
وقال الشعبي: كان بين عمر وأُبَيٍّ خصومة، فتقاضيا إلى زيد بن ثابت، فلما دخلا عليه أشار لعمر إلى وسادته، فقال عمر: هذا أوّل جورك؛ أجلسني وإياه مجلسًا واحدًا؛ فجلسا بين يديه.
الخامسة: هذه الآية تمنع من حكم الحاكم بعلمه؛ لأن الحكام لو مكِّنوا أن يحكموا بعلمهم، لم يشأ أحدهم إذا أراد أن يحفظ وليّه ويهلك عدوّه إلا ادعى علمه فيما حكم به.
ونحو ذلك روي عن جماعة من الصحابة منهم أبو بكر؛ قال: لو رأيت رجلًا على حدّ من حدود الله، ما أخذته حتى يشهد على ذلك غيري.
وروي أن امرأة جاءت إلى عمر فقالت له: احكم لي على فلان بكذا فإنك تعلم ما لي عنده.
فقال لها: إن أردت أن أشهد لك فنعم وأما الحكم فلا.
وفي صحيح مسلم عن ابن عباس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى بيمين وشاهد؛ وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه اشترى فرسًا فجحده البائع، فلم يحكم عليه بعلمه وقال: «من يشهد لي» فقام خزيمة فشهد فحكم خرّج الحديث أبو داود وغيره وقد مضى في البقرة.
قوله تعالى: {وَمَا خَلَقْنَا السماء والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا} أي هزلًا ولعبًا.
أي ما خلقناهما إلا لأمر صحيح وهو الدلالة على قدرتنا.
{ذَلِكَ ظَنُّ الذين كَفَرُواْ} أي حسبان الذين كفروا أن الله خلقهما باطلًا.
{فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنَ النار} ثم وبخّهم فقال: {أَمْ نَجْعَلُ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات} والميم صلة تقديره: أنجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات {كالمفسدين فِي الأرض} فكان في هذا ردّ على المرجئة؛ لأنهم يقولون: يجوز أن يكون المفسد كالصالح أو أرفع درجة منه.
وبعده أيضًا: {أَمْ نَجْعَلُ المتقين كالفجار} أي أنجعل أصحاب محمد عليه السلام كالكفار؛ قاله ابن عباس.
وقيل هو عام في المسلمين المتقين والفجّار الكافرين وهو أحسن، وهو ردّ على منكري البعث الذين جعلوا مصير المطيع والعاصي إلى شيء واحد.
قوله تعالى: {كِتَابٌ} أي هذا كتاب {أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ} يا محمد {ليدبروا} أي ليتدبروا فأدغمت التاء في الدال.
وفي هذا دليل على وجوب معرفة معاني القرآن، ودليل على أن الترتيل أفضل من الهَذِّ؛ إذ لا يصح التدبر مع الهَذّ على ما بيناه في كتاب التذكار.
وقال الحسن: تدبر آيات الله اتباعها.
وقراءة العامة {لِيَدَّبَّرُوا}.
وقرأ أبو جعفر وشيبة: {لِتَدبَّرُوا} بتاء وتخفيف الدال، وهي قراءة عليّ رضي الله عنه، والأصل لتتدبروا فحذف إحدى التاءين تخفيفًا {وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُو الألباب} أي أصحاب العقول واحدها لُبٌّ، وقد جمع على أَلُبِّ، كما جمع بُؤسٌ على أبؤسٍ، ونُعْم على أنعم؛ قال أبو طالب:
قلبي إليه مُشرِفُ الأَلُبِّ

وربما أظهروا التضعيف في ضرورة الشعر؛ قال الكُمَيت:
إليكم ذوِي آلِ النَّبيّ تَطَلَّعَتْ ** نوازِعُ من قلبِي ظِماءٌ وَأَلْبُبُ

. اهـ.

.قال أبو السعود:

{يا داود إِنَّا جعلناك خَلِيفَةً في الأرض} إمَّا حكاية لمَّا خُوطب به عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ مبينة لزُلفاه عنده عزَّ وجلَّ وإمَّا مقولُ قولٍ مقدَّرٍ هو معطوف على غفرنا، أو حالٌ من فاعله أو وقُلنا له أو قائلين له يا داودُ الخ أي استخلفناك على المُلك فيها والحكمِ فيما بينَ أهِلها أو جعلناك خليفةً ممَّن كان قبلك من الأنبياء القائمينَ بالحقِّ وفيه دليلٌ بيِّنٌ على أنَّ حالهَ عليه الصَّلاة والسَّلام بعد التَّوبةِ كما كانت قبلها لم تتغيَّرْ قَط.
{فاحكم بَيْنَ الناس بالحق} بحكم الله تعالى فإنَّ الخلافةَ بكلا معنييه مقتضيةٌ له حتمًا {وَلاَ تَتَّبِعِ الهوى} أي هوى النفس في الحكومات وغيرها من أمور الدِّين والدُّنيا {فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ الله} بالنَّصبِ على أنَّه جوابُ النَّهي. وقيل: هو مجزومٌ بالعطفِ على النَّهيِ مفتوحٌ لالقتاءِ السَّاكنينِ أي فيكون الهوى أو اتِّباعُه سببًا لضلالِك عن دلائلِه التي نصبها على الحقِّ تكوينًا وتَشريعًا. وقوله تعالى: {إِنَّ الذين يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ الله} تعليلٌ لما قبله ببيانِ غائلتِه وإظهار سبيلِ الله في موقعِ الإضمارِ لزيادة التَّقريرِ والإيذانِ بكمال شناعةِ الضَّلالِ عنه {لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ} جملة من خبرٍ ومبتدأٍ وقعت خبرًا لأنَّ أو الظَّرفُ خبرًا لأنَّ وعذابٌ مرتفع على الفاعليةِ بما فيه من معنى الاستقرارِ.
{بِمَا نَسُواْ} بسبب نسيانِهم وقوله تعالى: {يَوْمِ الحساب} إما مفعولٌ لنسُوا فيكون تعليلًا صريحًا لثبوت العذابِ الشَّديدِ لهم بنسيان يوم الحسابِ بعد الإشعارِ بعلِّيةِ ما يستتبُعه ويستلزمه أعني الضَّلالَ عن سبيل الله تعالى فإنَّه مستلزمٌ لنسيانِ يوم الحساب بالمرَّةِ بل هذا فردٌ من أفرادِه أو ظرفٌ لقوله تعالى: {لهم} أي لهُم عذابٌ شديدٌ يومَ القيامةِ بسببِ نسيانِهم الذي هو عبارةٌ عن ضلالِهم، ومن ضرورتِه أن يكون مفعولُه سبيلِ الله فيكون التَّعليلُ المصرح به حينئذٍ عينَ التَّعليلِ المشعر به بالذَّاتِ غيره بالعُنوان ومَن لم يتنبه لهذا السرِّ السريِّ قال بسبب نسيانِهم وهو ضلالُهم عن السَّبيلِ فإنَّ تذكَّره يقتضي ملازمةَ الحقِّ ومخالفةَ الهَوَى فتدبَّر.
{وَمَا خَلَقْنَا السماء والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا باطلا} كلامٌ مستأنفٌ مقررٌ لما قبله من أمرِ البعثِ والحسابِ والجزاءِ وما خلقناهُما وما بينهما من المخلوقاتِ على هذا النِّظامِ البديعِ الذي تحارُ في فهمِه العقولُ خلقًا باطلًا أي خاليًا عن الغايةِ الجليلةِ والحكمةِ الباهرةِ بل منطويًا على الحقِّ المُبين والحِكم البالغةِ حيثُ خلقنا من بينِ ما خلقنا نُفوسًا أودعناها العقلَ والتَّمييزَ بين الحقِّ والباطلِ والنَّافعِ والضَّارِّ ومكنَّاها من التَّصرفاتِ العلميةِ والعمليةِ في استجلابِ منافعِها واستدفاعِ مضارِّها ونصبنا للحقِّ دلائلَ آفاقيةً وأنفسيةً ومنحناها القُدرةَ على الاستشهادِ بها ثم لم نقتصرْ على ذلك المقدارِ من الألطافِ بل أرسلنا إليها رُسلًا وأنزلنا عليها كُتبًا بيّنّا فيها كلَّ دقيقٍ وجليلٍ وأزحنا عللَها بالكلِّية وعرضناها بالتكليف للمنافع العظيمةِ وأعددنا لها عاقبةً وجزاءً على حسب أعمالِها {ذلك} إشارةٌ إلى ما نُفي من خلقِ ما ذُكر باطلًا {ظَنُّ الذين كَفَرُواْ} أي مظنونهم فإنَّ جحودَهم بأمرِ البعثِ والجزاءِ الذي عليه يدورُ فلكُ تكوينِ العالمِ قولٌ منهم ببطلانِ خلقِ ما ذُكر وخلوِّه عن الحكمةِ سبحانَهُ وتعالى عمَّا يقولون علوًّا كبيرًا.
{فَوَيْلٌ لّلَّذِينَ كَفَرُواْ} مبتدأٌ وخبرٌ والفاءُ لإفادةِ ترتُّبِ ثبوتِ الويلِ لهم على ظنِّهم الباطلِ كما أنَّ وضع الموصولِ موضعَ ضميرهم للإشعارِ بما في خيِّز الصِّلةِ بعلية كفرهم له، ولا تنافى بينهما لأنَّ ظنَّهم من باب كُفرِهم. ومِن في قوله تعالى: {مِنَ النار} تعليليةٌ كما في قوله تعالى: {فَوَيْلٌ لَّهُمْ مّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ} ونظائرِه، ومفيدةٌ لعليَّةِ النَّار لثبوتِ الويلِ لهم صَريحًا بعد الإشعارِ بعليةِ ما يُؤدِّي إليها من ظنِّهم وكفرِهم أي فويلٌ لهم بسببِ النَّارِ المترتِّبةِ على ظنِّهم وكفرِهم.
{أَمْ نَجْعَلُ الذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات كالمفسدين في الأرض} أم منقطعةً، وما فيها من بلْ للإضرابِ الانتقاليِّ عن تقرير أمر البعثِ والحسابِ والجزاء بما مرَّ من نفيِ خلقِ العالم خاليًا عن الحكمِ والمصالحِ إلى تقريرِه وتحقيقِه بما في الهمزةِ من إنكار التَّسويةِ بين الفريقينِ ونفيها على أبلغِ وجهٍ وآكدِه أي بل أنجعلُ المؤمنينَ المُصلحينَ كالكَفَرةِ المُفسدين في أقطارِ الأرضِ كما يقتضيه عدمُ البعثِ وما يترتَّبُ عليه من الجزاءِ لاستواء الفريقين في التَّمتع بالحياةِ الدُّنيا بل الكَفَرةُ أوفرُ حظًَّا منها من المؤمنينَ لكن ذلك الجعلُ محالٌ فتعيَّن البعثُ والجزاءُ حتمًا لرفع الأوَّلينَ إلى أعلى عِلِّييِّنَ وردِّ الآخرينَ إلى أسفلِ سافلينَ. وقوله تعالى: {أَمْ نَجْعَلُ المتقين كالفجار} إضرابٌ وانتقالٌ عن إثبات ما ذُكر بلزوم المحالِ الذي هو التَّسويةُ بين الفريقينِ المذكُورينِ على الإطلاقِ إلى إثباتِه بلزومِ ما هو أظهرُ منه استحالةً وهو التَّسويةُ بين أتقياءِ المؤمنينَ وأشقياءِ الكَفَرةِ وحملُ الفُجَّار على فَجَرةِ المُؤمنين ممَّا لا يساعدُه المقامُ ويجوزُ أنْ يرادَ بهذينِ الفريقينِ عينُ الأوَّلينِ ويكون التَّكريرُ باعتبارِ وصفينِ آخرينِ هما أدخلُ في إنكار التَّسوية من الوصفينِ الأوَّلين وقيل قال كفَّارُ قُريشٍ للمؤمنين: إنَّا نُعطَى في الآخرةِ من الخيرِ ما تُعطَون فنزلتْ.
{كِتَابٌ} خبرُ مبتدأٍ محذوفٍ هو عبارةٌ عن القُرآن أو السُّورةِ. وقولُه تعالى: {أنزلناه إِلَيْكَ} صفتُه. وقوله تعالى: {مُّبَارَكٌ} خبرٌ ثانٍ للمتدأِ أو صفةٌ لكتابٌ عند مَن يُجوِّز تأخيرَ الوصفِ الصَّريحِ عن غيرِ الصَّريحِ. وقُرئ مباركًا على أنَّه حالٌ من مفعولِ أنزلنا ومعنى المبارك الكثيرُ المنافعِ الدِّينيةِ والدُّنيويةِ. وقولُه تعالى: {لّيَدَّبَّرُواْ ءاياته} متعلِّقٌ بأنزلناه أي أنزلنَاهُ ليتفكَّروا في آياتِه التي من جُملتها هذه الآياتُ المعربةُ عن أسرارِ التَّكوينِ والتَّشريعِ فيعرفُوا ما يدبر ظاهرها من المعانِي الفائقةِ والتَّأويلاتِ اللائقةِ وقرئ ليتدَّبروا على الأصل ولتدبَّروا على الخطابِ أي أنتَ وعلماءُ أمَّتك بحذفِ إحدى التَّاءينِ {وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُو الالباب} أي وليتَّعظ به ذَوُو العقولِ السَّلميةِ أو ليستحضرُوا ما هو كالمركوزِ في عقولِهم من فرطِ تمكُّنهم من معرفتِه لما نُصبِ عليه من الدَّلائلِ فإنَّ الكتبَ الإلهيةَ مبيِّنةٌ لما لا يُعرف إلا بالشَّرعِ ومرشدةٌ إلى ما لا سبيلَ للعقلِ إليه. اهـ.